مخاطر أدلجة الفقهاء والمفتين لوزير الأوقاف
مخاطر أدلجة الفقهاء والمفتين
د / محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف
تعمل الجماعات المتطرفة على فرض أيديولوجيتها العقدية أو الفكرية أو المذهبية على المجتمع ، ولا يمكن أن يتأتى لها ذلك إلا من خلال محاولة استقطاب نخبة من العلماء والمفكرين والمثقفين والفقهاء والمفتين ، وخاصة المشهورين أو النابغين ، ليكونوا في مقدمة أدواتها لنشر أفكارها المضللة ، والعمل على استقطاب وضم العديد من العناصر الجديدة إليها ، وتضع ذلك في مقدمة أولوياتها ، إذ تقدر كل جماعة من هذه الجماعات أن قوتها تُقاس بعدد عناصرها ، وقدرتها على الحشد والاستقطاب والتجنيد ، ومستويات الولاء ، فكلما كان الولاء لقياداتها أعمى رأت ذلك مصدر قوة لها ، ولا سيما تلك الجماعات التكفيرية التي تجند الإرهابيين للقيام بالعمليات الانتحارية والتفجيرية ، فإنها تريد مسخًا بلا عقل ، لا يناقش ولا يراجع ولا يفكر ، إنما يسلم القياد ويتلقى وينفذ .
وفي سبيل الوصول إلى ذلك تغلف الجماعات المتطرفة أعمالها بسياجات متعددة من السرية والكتمان ، وتعمل في عالم الخفاء ، فهم كالخفافيش التي لا تستطيع أن تحيا إلا في الظلام .
وتتخذ هذه الجماعات من أدلجة بعض العلماء والمثقفين والمحسوبين على الفقه والفتوى وسيلة لأدلجة المجتمع أو أوسع قطاع ممكن منه ، وطبعه بطابعها ، أو إيمانه بأفكارها ، وعلى أقل تقدير تعاطفه معها ، وفي سبيل ذلك تبذل لهؤلاء من أدعياء العلم والثقافة من المكاسب والمصالح والمنافع ما يربطهم بها برباط وثيق ، مع ما يعلمه هؤلاء من العقاب المنتظر لمن يفكر في الخروج على هذه الجماعات.
وفي سبيل الوصول لأغراضها تتخذ كل جماعة بعض الرءوس الجهال المؤدلجين مفتين لها , عامدة إلى تشويه العلماء والفقهاء والمفتين الذين لا ينحنون لها , لتصرف الناس عنهم إلى المفتين الذين تصنعهم صناعة وتحاول جاهدة تسويقهم كبديل للمؤسسات العلمية والدينية والإفتائية المعتبرة.
ومن ثمة كان لا بد من الحديث عن خطورة الأدلجة أو الوقوع في شراكها ، ونلخص ذلك في نقاط:
1- أن أكثر العلماء والفقهاء والمفكرين والمثقفين الذين وقعوا في براثن هذه الجماعات لم يستطيعوا الفكاك منها رغبًا أو رهبًا ، غير أنهم قد خسـروا أنفسهم وحريتهـم ، وانسـاقوا إلى طـريق اللاعودة واللارجعة، ولو على حساب دينهم أو بلدهم أو إنسانيتهم ، أو أي شيء آخر غير الولاء لهذه التنظيمات التي لا تعرف الرحمة بمن يفكر في الخروج عنها أو عليها.
2- أن أي عالم أو مفكر أو مثقف يمكن أن تُشترى ذمته على حساب قضايا دينه أو وطنه لخائن للدين والوطن , كما أن على الوطن أيضًا أن يحتضن علماءه ولا سيما الشباب منهم , ويبصرهم بالتحديات التي تواجهه , وبما قد لا يقفون عليه من صعوبات وتحديات ؛ ليدركوا ما يمكن أن يغيب عنهم من فقـه الواقـع وتحديات الظرف الراهـن ؛ لتنضبط رؤاهم وفتاواهم مع ما يتطلبه فقه هذا الواقع دون إفراط أو تفريط .
3- أن العالِم أو الفقيه غير المؤدلج فكريًّا , وبعبارة أكثر وضوحًا ومباشرة : غير المنتمي فكريًّا أو تنظيميًّا لأي جماعة كانت , لهو سهل الرجوع إلى الحق والالتقاء معك في منطقة وسط, وقابل لأن يسمع الرأي الآخر, وألا يجادل إلا بالحق وبالتي هي أحسن , وألا يدعو إلا بالحكمة والموعظة الحسنة, ومتى تبين له وجه الحق عاد إليه , شاكرًا من رده إليه ردًّا جميلاً , أما العالِم أو الفقيه أو المفكر أو المثقف المؤدلج المنتمي فكريًّا أو تنظيميًّا لأي جماعة أو تيار فهو إما غير قابل للحوار أصلا , أو غير قابل إلا للحوار الجدلي العقيم على طريقته هو التي لا يمكن أن تؤدي إلا إلى طريق واحد هو ما يريد بك الوصول إليه وحملك عليه وإرغامك على فكرته ولو بالباطل، وبكل ما يخالف العقل والمنطق.
4- إذا كان الانتماء لهذه الجماعات يُشكل خطرًا داهمًا على النسيج الوطني وفي كل مفاصل الحياة , فإن الأمر لهو أكثر خطرًا وأشد بلاء عندما يتعلق الأمر بالدين والفكر والتربية والهوية , ولذا فإني أؤكد وسأظل أؤكد على عدم تمكين أي من المنتمين للجماعات المتشددة والمتطرفة لا من صنع القرار الديني ولا الفكري ولا الثقافي ولا التعليمي ولا التربوي, ولا حتى مجرد التمكن من تشكيل العقول وبخاصة عقول النشء والشبـاب .
5- أن ما تقوم به هذه الجماعات المتطرفة هو عين الجناية على الإسلام , ذلك أن ما أصاب الإسلام من تشويه لصورته على أيدي هؤلاء المجرمين بسبب حماقاتهم لم يصبه عبر تاريخه على أيدي أعدائه من التتار وغيرهم بما ارتكبوه من مجازر في الماضي وما يصيبه على أيدي داعش ، والقاعدة , والنصرة ، وبوكو حرام ، وأضرابهم في الحاضر.
6- أن العمل على تقوية شوكة الدولة الوطنية مطلب شرعي ووطني ، وأن كل من يعمل على تقويض بنيان الدولة أو تعطيل مسيرتها ، أو تدمير بناها التحتية، أو ترويع الآمنين بها أو جرّ بعض أبنائها إلى طريق الهاوية , متذرعا بسلاح الفقه والعلم ، إنما هو مجرم في حق دينه ووطنه معًا .